– صباح الشرق/ SABAHACHARK
– الدكتور مصطفى بن شريف/ الجزء الأول
تقديم:
حظي موضوع الجهوية في المغرب بإهتمام الدولة بجميع مؤسساتها، كما أولته الأحزاب السياسية، بنقاشات و مداولات و الفقه بدوره لم يحد عن هذه القاعدة، و ذلك منذ مطلع الستينات، و مع أول دستور للمملكة سنة 1962 ، الذي و إن كان لم يدستر “الجهوية” إلا أنه تبنى نظام اللامركزية الإدارية.
و بعد عقود، و أمام التحولات السياسية التي شهدها المغرب، و في محطات فارقة كانت اللامركزية الإدارية تناقش بشكل مرتبط بالديموقراطية التي يجب أن تسود، في ظل مغرب يتميز بتناقضات و صراعات سياسية كبلت مستقبله الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي، أمام تشبت الدولة بنظرية الحكم المطلق، لأنه في نظرها، الديموقراطية لا تعني بالضرورة نقل السلطات إلى الهيئات المنتخبة، برلمان أو جماعات ترابية، بل أن المغرب هو في حاجة إلى ديموقراطية من نوع خاص، أي ديموقراطية موجهة أو محروسة.
و نظرا للتحولات الدولية، والتهييئ لانتقال السلطة، بادر الملك الراحل الحسن الثاني إلى مراجعة مفهوم الديموقراطية الحسنية، والإعلان عن مصالحات مع المجتمع المغربي و مكوناته السياسية، وذلك بإصدار عفو عام و إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، و هو التوجه الذي نحاه الملك محمد السادس باعتلائه عرش المملكة، الذي ما فتئ يؤكد على المنهج الديموقراطي الذي يجب أن يحكم الدولة، تم تتوجيه بدستور جديد (دستور 2011) الذي قوى من المركز الدستوري للحكومة والبرلمان والقضاء، بحيث تم الإرتقاء بالبرلمان و بوأه مرتبة “السلطة التشريعية”، كما تم الإنتقال بالقضاء من مركز جهاز أو مؤسسة إلى مرتبة “السلطة القضائية”، و تم ذلك في إطار عقلنة مبدأ فصل السلطات بإعادة النظر في توزيعها، وفي سياق الإصلاح الدستوري والسياسي المذكور، تم الإقرار و لأول مرة، بأن التنظيم الترابي للمملكة يقوم على الجهوية المتقدمة”، كشكل من أشكال
التدبير الترابي و المرفقي لمؤسسات الدولة، في إطار إعادة التوازن بين الدولة المركزية و الوحدات الترابية و المرفقية.
لكن، ورغم تبني الدستور “الجهوية المتقدمة”، إلا أن المشرع لم يعكس مضامينها في القانون التنظيمي رقم 14-111 المتعلق بالجهات، بل أنه حصرها في مدلولها و مفهومها التقليدي، أي الجهوية الإدارية أو اللامركزية الإدارية، و هو القانون الذي صدر و العوار أو الإغفال التشريعي يحيط به، في الوقت الذي طرح فيه المغرب مبادرة سياسية تروم تسوية النزاع في الصحراء، وكان حريا بالمشرع أن يتبنى الجهوية السياسية عوض الجهوية الإدارية، وذلك من أجل دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء، التي تم الإعلان عنها رسميا في سنة 2006 ، و تم تقديمها للأمين العام للأمم المتحدة سنة 2007.
و هكذا، سنتولى في هذه الدراسة عرض أسس التنظيم الترابي للمملكة، الذي يرتكز على الجهوية المتقدمة، ثم التطرق إلى أوجه التطابق و الإختلاف بين “الحكم الذاتي” و الجهوية المتقدمة في إطار الدولة الموحدة بالإعتماد على المرجعيات الدستورية و الدولية، دون إغفال ما إذا كانت المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء تستدعي مراجعة دستورية لتوضيح مضامين و حدود الجهوية المتقدمة كإطار دستوري يستوعب أطروحة الحكم الذاتي.
– أولا: التذكير بمفهوم الأشخاص المعنوية العامة الترابية:
إن الأشخاص المعنوية العامة الترابية أو الإقليمية، هي من أشخاص القانون العام، تمارس نشاطها وسلطاتها في إطار الإختصاص الإقليمي المقرر لها بموجب الدستور و القانون، و هو إختصاص (أي الترابي، الذي قد يكون ذات طابع وطني (الدولة) أو نطاقه جزء معين من تراب الدولة، قد يتخذ شكل الجهة، أو العمالة أو الإقليم، أو الجماعة أي الجماعات الترابية).
و الدولة، تمارس إختصاصات وطنية، لكونها تعتبر أم و أصل أشخاص القانون العام الاخرى الترابية والمرفقية، في حين أن الجهات تمارس اختصاصات في حدود الجهة و المجالس الإقليمية نطاقها الترابي العمالات و الأقاليم، و مجالس الجماعات تباشر إختصاصات ضمن الوحدة الترابية للجماعة، وجميع الوحدات الترابية (الجهات العمالات و الأقاليم، و الجماعات)، هي أشخاص معنوية عامة ترابية تتمتع بالإستقلال المالي و الإداري.
و تعتبر الوحدات الترابية المذكورة، بمثابة تنزيل لمفهوم اللامركزية الإدارية و ترجمة لمضمون التنظيم الترابي للمملكة، الذي يقوم على الجهوية المتقدمة”، كفلسفة و كمبدأ دستوري، تم التأكيد عليه لأول مرة في الفصل 1 من دستور 2011، خلافا لدساتير 1962 و 1970 و 1972 و 1992 و 1996، التي خلت من التنصيص على النظرية الدستورية الجديدة، المتمثلة في “الجهوية المتقدمة ، و تم بذلك دسترة الجهوية”، والرقي بها من “الجهوية الإدارية” إلى مرتبة الجهوية المتقدمة، و هو بمثابة توقع دستوري بمرجعية سياسية لما يجب أن تكون عليه الجهوية بالمغرب بإستبدال الجهوية الإدارية بالجهوية المتقدمة.
إن الدولة تمارس السيادة على مجموع ترابها، في حين أن الجماعات الترابية مفوض لها من طرف الدولة من أجل تدبير و إدارة وحدة ترابية معينة، تتخذ شكل الجهة، أو العمالة أو الإقليم أو الجماعة، وفقا للشكل المنصوص عليه في القوانين التنظيمية رقم: 14-111 المتعلق بالجهات، و 14-112 المتعلق بالعمالات والأقاليم، و 14-113 المتعلق بالجماعات. و هكذا، فالجهوية الإدارية أو اللامركزية الإدارية، هي أسلوب سياسي و إداري، يعمل به في تدبير الجماعات الترابية، وقابل للتطبيق في الدول البسيطة أو في الدول المركبة الأولى تتخذ شكل الدولة الموحدة، في حين أن الثانية، تتكون من دوليات أو وحدات فيدرالية تستوعب معا اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية.
-1- خصائص الدولة الموحدة والدولة الفيدرالية
تعتبر الدولة من أهم الأشخاص المعنوية العامة، و بأنها تمثل الكيان المعنوي العام الذي يمارس إختصاصات الحكم والسلطة العامة، و لم يرد في دساتير الدول التنصيص صراحة على شخصية الدولة أو على تمتيعها بالشخصية المعنوية العامة أو تعريف مفهوم الدولة، لأن شخصية الدولة ركن من أركان وجودها وفقا لقواعد القانون الدولي العام، و لذلك اعتبر الفقه بأنه لا حاجة بأن يتضمن الدستور نصا على شخصية الدولة.
علما أن الدساتير ليست هي من تعلن عن قيام الدولة، لأن الدولة سابقة على الدستور لكون هذا الأخير (أي الدستور)، هو وثيقة كاشفة لطبيعة الحكم أو النظام السياسي و شكل الدولة، وتحديد طبيعة العلاقة بين السلط، و بيان الحقوق والحريات.
أنه و إذا كانت الدساتير لم تعرف الدولة، و لم تمتعها صراحة بالشخصية المعنوية العامة، إلا أن الوضع ليس كذلك مع الأشخاص المعنوية العامة الترابية و المرفقية، بحيث أن بعض الدساتير أوردت في صلب الوثيقة الدستورية صراحة بأن الجماعات الترابية أشخاص إعتبارية، خاضعة للقانون العام، تسير شؤونها بكيفية ديموقراطية، و هو ما نص عليه الدستور المغربي في الفصل 135، كما ينص الفصل 71 من الدستور بأن “إحداث المؤسسات العمومية و كل شخص اعتباري من أشخاص القانون العام”، من ولاية المشرع.
إن عدم منح الدولة الصفة الإعتبارية من طرف الدساتير ، لا يعني بأي حال من الأحوال بأن الدولة ليست بشخص من أشخاص القانون العام، بل أنها تمثل الأصل الذي تتفرع عنه جميع الأشخاص المعنوية العامة الترابية و المرفقية، و هي من تمنحها الشخصية القانونية العامة و تعترف بها، و هذا ليس بغريب، لأن الدولة هي من تمارس السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، أي ما يعرف بالسلطات الأساسية في الدولة خاصة الدولة الموحدة.
و إذا كانت الدساتير المغربية لم تنص على تمتيع الدولة بالشخصية الإعتبارية العامة لكنها أجمعت على أن المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، و هي الصيغة التي وردت في تصدير دساتير 1962 و 1970 و 1972 و 1992 و 1996 و2011.
و يعرف قسم واسع من الفقه الدستوري، أن الدولة بمفهومها العام، هي مجموعة بشرية متواجدة فوق رقعة جغرافية و سياسية تتوفر على تنظيمات وإرادة يخضع لها الجميع و لإكتساب كيان سياسي بإسم الدولة، يتعين قيام ثلاث مكونات أساسية هي: الإقليم و الشعب، والحكومة أو الهيئة، أو السلطة الحاكمة.
و الدولة ككيان سياسي، تتخذ شكل دولة بسيطة (Etat Simple) و موحدة (Etat Unitaire) أو دولة مركبة (Etat Compose) أو إتحادية / فيدرالية (Etat Fédéral)
2- مبادئ الدولة البسيطة أو الدولة الموحدة وخصائصها:
في الدولة الموحدة أو البسيطة، تحتكر الدولة جميع مظاهر السيادة الداخلية و الخارجية، تتولى الدولة في إطارها ممارسة نظام الحكم أو السلطة ضمن سيادة موحدة يتميز بوجود برلمان واحد، وحكومة واحدة، و نظام قضائي واحد ، و يكون لها دستور واحد كقانون أساسي للدولة و ينص على وحدة المؤسسات الدستورية للدولة.
و الدولة البسيطة، قد تكون مركزية أو لامركزية، في الحالة الأولى تكون الوظائف السياسية والإدارية من مهام الدولة المركزية، تسمى بالمركزية الإدارية، التي تتولى فيها الدولة إصدار أوامرها إلى المصالح اللاممركزة ، وفي الحالة الثانية (أي في الدولة اللامركزية)، يتم توزيع الإختصاصات الإدارية بين الدولة المركزية و وحدات ترابية أو هيئات مرفقية، تسمى باللامركزية الإدارية.
و هكذا، تتحدد الدولة الموحدة بأنها تتمثل في الدولة حيث توجد و تمارس السلطة السياسية بشكل كامل على مجموع تراب أو إقليم الدولة، وتتخذ القرارات من طرف السلطة و تطبيقها بشكل موحد ، في حين أنه في الدولة المركبة وخاصة الدولة الفدرالية، تتميز بتعايش عدة مراكز للسلطة، تكون في شكل كيانات سياسية، كل كيان يتمتع بسلطات تشريعية، وتنفيذية وقضائية، في حين تحتفظ الدولة الفدرالية بالسلطات السيادية (الدفاع، الخارجية، العملة الوطنية).
وهكذا، يتبين بأن الدولة الموحدة ليست هي الدولة المركبة، لكونها تتميز بتطبيق دستور واحد، وتشريع أو برلمان واحد، و سلطة قضائية واحدة، عكس الدولة الفيدرالية التي تتركب من فيدراليات أو ولايات، و لذلك تم وصفها بالدولة المركبة، كما يجب التمييز بين الدولة الفدرالية و الدولة الكنفدرالية، هذه الأخيرة هي بمثابة تجمع للدول المستقلة يتم إحداثه بناء على معاهدة دولية بين الدول المعنية بالنظام الكنفدرالي الذي يتم الإتفاق عليه.
إن الدولة بمفهومها الحديث، تتكون من أركان ثلاثة و هي: الشعب أو الأمة، السلطة السياسية (نظام الحكم)، و الإقليم (البر والبحر والجو)، و تتخذ الدول أشكالا مختلفة كما سبق الحديث، لكن السائد دوليا، نجد الدولة الموحدة أو الدولة المركبة، فالدولة الموحدة قد تكون دولة موحدة ذات النظام المركزي، أو دولة موحدة ذات النظام اللامركزي، في حين أنه قد تكون للدولة ذات نظام إداري في شكل الدولة الجهوية و هو ما تأخذ به كل من إيطاليا و إسبانيا والبرتغال و بلجيكا، قبل أن تصبح دولة إتحادية سنة 1993، و المملكة المتحدة و في هذه الدول يسود نظام اللامركزية السياسية عبر تطبيق شكل “الدولة الجهوية” أو دولة الجهات.
– (يتبع في الجزء الثاني)





















